الاثنين، 16 يوليو 2012

جميل بثينة.... العذري الجميل

جميل بثينة.... العذري الجميل
          قيل لأعرابي من العذريين ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث (تذوب) كما ينماث الملح في الماء؟ قال: إنّا لننظر إلى عيون نساء لا تنظرون لمثلها!. وقيل لعذري آخر: ممن أنت؟ قال: من قوم إذا أحبوا ماتوا! فسمعته امرأة فقالت: عذري ورب الكعبة!
          والعذريون شعراء ظهروا في الجزيرة العربية في بداية الدولة الأموية ينتسبون لقبيلة عذرة ويعرفون بانحيازهم للعشق علنا عبر قواف شعرية خلدت ذلك العشق القبلي، ولكنها ساهمت أيضا في حرمان مبدعيها من الزواج بمن يحبون من النساء انتصارا للقيم القبلية على قيم الحب والغرام، حتى لو كان عذريا بريئا من رغبات الجسد وتبعاتها على مدى العلاقة بين العاشقين.
          ولا يرى البعض في الحب العذري سوى صورة للحب الذي ينبثق في الروح متجاهلا نداءات الجسد الحي توصيفا وتأليفا. وعلى طريق ذلك التعريف سار شعراء كثيرون بدأوا بمجنون ليلى وسرعان ما ازدحم الطريق بمن تجنبوا وظيفة الشعر آنذاك في مديح الرجال وهجائهم والفخر بهم إلى وظيفته الأحلى، والتي عبر عنها جميل بثينة عندما سئل يوما: لماذا لا تمدح الخلفاء؟ قال: أنا أمدح النساء!
          وجميل بن عبدالله بن معمر العذري القضاعي، أحد هؤلاء العذريين الذين امتلأت بقصصهم من حبيباتهم كتب الشعر والتاريخ والطرائف أيضا، حيث كانوا المادة الأجمل والباب الأكثر شهرة في كل كتاب من تلك الكتب على مدى التاريخ.
          وقد اشتهر جميل باسمه المنسوب إلى اسم حبيبته بثينة بنت حيان بن ثعلبة، حيث استن بذلك النسب الغريب سنة اتبعها بعده شعراء آخرون، دون أن يشعروا بالحرج في مجتمع ذكوري حديث عهد بجاهليته العربية.
          وتتكون سيرة جميل بثينة من مجموعة من الحلقات المتتابعة على خطى تلك العلاقة التي استغرقت حياته كلها تقريبا وكونت ديوانه الشعري بكامله.
          بدأت تلك العلاقة بحلقة من سوء تفاهم بينهما شابين لاهيين في مضارب أهلهما، عندما مرت بثينة وجارة لها على إبل باركة لجميل عند مورد ماء في واد يسمى بوادي بغيض، فنفرت تلك الإبل، مما أغضب جميل فلم يجد بدا من سبها، فسبته هي، فاستلطف سبابها، وتعلق بها منذ تلك الواقعة التي خلدها بقوله:
وأول من قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثينُ سبابُ
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثينُ جواب

          وكان الجواب أطول عمرا مما توقع الاثنان معا كما يبدو، فمنذ تلك اللحظة بدأت علاقة لم تنته حتى هذه اللحظة، التي نحاول استرجاعها عبر الكتابة عنهما شاعرا عاشقا، وعاشقة شاعرة بكل خلجة من خلجات ذلك العشيق الذي تمرس في حب النساء قبل أن يحتل حبه لبثينة كل مساحات الروح لديه. لكن والد بثينة وقف لذلك الحب بالمرصاد فلم يقبل تزويج ابنته لمن جعلها عنوانا لقصيده كله، وانتسب لاسمها ولها وفخرا بذلك الحب. وعلى عادة العرب آنذاك أنف الوالد الغيور من أن يتحدث أحد عن ابنته بالسوء من جراء تلك العلاقة المفضوحة، فزوجها لأول خاطب لها لعله يضع بذلك نهاية للقصة، لكن القصة لم تنته، بل ظلت ممتدة على مدى حياتي العاشقين مدا في بحرا الغرام الملتهب، والذي لم تحده حدود الارتباط الزوجي، وجزرا في يابسة الغيرة والتي كانت تلك الحدود تزيدها حدة بينهما. وكان لا بد من تدخل السلطة لانهاء تلك العلاقة التي لم يكن يتقبلها مجتمع عربي وإسلامي ما زال يعيش في كنف بقايا بداوة صارمة، على صعيد كل ما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة. لكن جميلا لم يكن ليأبه الا بالقصيد الذي حرم عليه بثينة، وببثينة التي ألهمته ذلك القصيد، فبقى حكرا عليها وعلى علاقته بها. فكأن شعره كان الداء والدواء، وكأن بثينة بدورها كانت الداء والدواء، وظل جميل مصرا مراوحا بين دائيه ودوائيه حتى القصة الأخيرة في قصصه، التي امتلأت بها كتب العذريين. تقول سطور تلك القصة إنه هاجر إلى مصر فمرض هناك مرضته الأخيرة، فلما حضرته الوفاة (عام 28 هجرية) أوصى رجلا قريبا منه بحمل أبياته الأخيرة الى بثينة، فلما سمعت بثينة الأبيات سقطت مغشياً عليها، ثم قامت وقالت:
وإن سلوي عن جميل لساعة من
الدهر ماحانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر
إذا مت بأساء الحياة ولينها

          ولم تكن بثينة تبالغ في هذين البيتين اللذين رثت فيهما رجلا قصر شعره كله عليها، واعترف بحبها نسبا أبديا يكلل اسمه بالشعر والحب.


تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق